لمَ نشعر بالضياع؟ قراءة في مشاعر المسلمين بين الماضي والحاضر
- عماد الجبالي
- قبل 7 أيام
- 3 دقائق قراءة
هل خطر لك يومًا أن هذا الشعور الثقيل الذي يخنق روحك — ذلك الإحساس بالضياع، بالتيه في عالمٍ لا ينتمي إليك — قد مرّ به مسلمون من قبلك؟ هل جلست مرةً تتساءل: لماذا لسنا نحنُ قادة العالم، كما كان أسلافنا؟ لماذا لا نصعد إلى سماء الحضارة كما صعدوا؟ بل لماذا نشعر أننا لا نُحسن حتى التشبث بجذورنا، ولا بلوغ ما بلغه الصحابة ومن تبعهم؟
إنه سؤال لا يطرحه إلا من أرهقه البحث عن المعنى. ولعله من أصدق الأسئلة التي يمكن أن تنبثق من قلبٍ مؤمن لا يزال يتلمس النور.
ولكن، مهلاً... هل كان المسلمون بعد وفاة النبي ﷺ وصحابته بعيدين عن هذا الشعور؟ هل عاشوا عصورهم في نور كامل لا يخالطه ظلام، أم أن الضياع طرق أبوابهم هم أيضًا، واختبروا الألم والحيرة ونحن نعيد اجترار تلك المشاعر اليوم؟
في هذه المقالة، سنحاول أن نفتح نافذة على تلك الأرواح العظيمة التي رغم الفتن والاختلاف، رغم ألم الفقد ومرارة الفرقة، استطاعت أن تتلمس طريقها إلى الله، وأن تبني حضارة حملت نور الإيمان والعلم إلى الدنيا بأسرها.
فهل لنا أن نتلمس نحن أيضًا طريق العودة؟ دعونا نغوص معًا...
بعد أن غاب نور الصحابة... هل عمَّ الظلام؟
مات النبي ﷺ، فارتجت المدينة، وكادت القلوب أن تُنتزع من أجسادها حزنًا. ثم مضت السنون، وتوفي الخلفاء الراشدون، واحدًا تلو الآخر... وكانت كل وفاة، كأنما تنطفئ نجمة من سماء الهدى.
ومع غياب جيل الصحابة، وجد المسلمون أنفسهم في زمن جديد: زمن الفتن الكبرى — مقتل عثمان، معركة الجمل، صفين، الخوارج، الاختلاف في الحكم والسياسة.
ولوهلة... شعر كثيرون أن الطريق قد انطمس، وأن النور الذي حمله الرسول ﷺ بدأ يتبدد بين دماء الفتن وألسنة السيوف.
لكن رغم كل شيء... لم يختلفوا على الله. لم يختلفوا على القرآن. لم تكن معاركهم معركة عقيدة، بل كانت معركة فهمٍ واجتهاد.
كان الضياع سياسيًا، نعم، مؤلمًا، نعم، لكنه لم يكن قطيعة مع الله ولا ارتدادًا عن رسالته.
حين تتأمل ذلك الزمن، تدرك أن الضياع الحقيقي ليس في أن تختلف الآراء، بل في أن يذبل الإيمان في الصدور — وهذا ما لم يسمحوا له أن يحدث.
حين يضيق الطريق... يولد المجددون
وسط رماد الفتن، نهضت الأمة. كأن الحياة تأبى إلا أن تولد من رحم الألم.
ظهر التابعون، ثم تابعوهم، فحملوا القرآن في صدورهم، وجمعوا الحديث، وصنّفوا العلوم. وبنوا الجامعات، وفتحوا المدن، وأسّسوا حضارةً لا تزال آثارها شاهدة على أنهم، برغم الفتن، لم يفقدوا الاتجاه.
من الكوفة إلى بغداد، ومن دمشق إلى قرطبة، امتدت قوافل العلماء، تحمل النور وسط ظلمات السياسة والانقسامات.
كانت معركتهم الحقيقية مع الجهل، مع غفلة النفس، مع تيه القلوب. وكان سلاحهم: العلم، العبادة، العمل، والجهاد في سبيل الحق.
"كلما تاهت الأمة، عاد بعض أبنائها يشعلون المصابيح."
ولعل هذا هو الدرس الأول: الأزمات لا تقتل الأمم، بل تنقيها... إذا وجدت فيها نفوسًا تأبى أن تستسلم.
بين ضياع القوة وضياع الهوية... مسافة قرون
حين نتأمل ضياع الأمس وضياع اليوم، ندرك فرقًا مخيفًا.
في الماضي، كان المسلمون يتنازعون على السلطة، وقد يسقطون في شراك الدنيا، لكن جذورهم كانت ثابتة. كان القرآن حاضرًا في حياتهم، لا كتابًا يوضع على الأرفف.
أما اليوم... فقد أصبح الضياع ضياع هوية، ضياع قلب، ضياع معنى. لم نعد نعرف من نحن. نلبس لبوس الغرب، نتحدث بلغته، نحلم بأحلامه، نعيش صراعاته — ثم نتساءل لمَ نشعر أننا تائهون؟
لقد ضاعت البوصلة قبل أن تضيع القوة. ومن ضاعت بوصلته، تاه وإن حمل ألف سلاح.
ضياع الجذور... ضياع الفروع
لكن السؤال الأعمق يبقى: لماذا نشعر اليوم بالضياع أكثر مما شعر به من قبلنا؟
لأننا فقدنا الجذور. فقدنا التربية التي كانت تبدأ مع الطفل في حجر أمه على حب الله. فقدنا المؤسسات التي كانت تربي الإنسان قبل أن تعلمه.
اليوم، نشأنا على ثقافة الاستهلاك، لا على ثقافة البناء. نشأنا على سرعة الإنجاز، لا على عمق الإنجاز. نشأنا نبحث عن قمة الجبل دون أن نبني أساس البيت.
وفوق كل ذلك، أصبح الدين جزءًا من الهوية الورقية، لا الهوية القلبية. يُكتب في بطاقة الهوية: "مسلم"، لكنه لا يُكتب في أعماق النفس.
وهنا يبدأ الضياع الحقيقي: حين نصبح أجسادًا تحمل أسماءً عظيمة، لكن بقلوب خاوية.
حين نعود إلى أنفسنا... نعود إلى الله
ومع كل هذا الألم... يبقى باب العودة مفتوحًا.
فالضياع لم يكن أبدًا نهاية الطريق، بل قد يكون بداية اليقظة. وكل ضياع هو نداء من الله للقلب: أن استفق.
لا نحتاج أن نغير العالم في لحظة. نحتاج فقط أن نغير أنفسنا، أن نشعل شمعة في ظلمة قلوبنا. نحتاج أن نعود إلى القرآن، لا ككتاب يقرأ للبركة، بل كرسالة حياة. نحتاج أن نصلي، لا فقط بالبدن، بل بالقلب، بالعقل، بالروح.
قال سبحانه : "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" {العنكبوت:69}
فلنبدأ من أنفسنا. فلنحمل شعلة صغيرة... علّها تنير طريقنا، وتلحقنا بركب من سبقونا إلى الله بصدقهم.
Comments