top of page

    حين ننحني للبشر... وننسى ربّ البشر

    • صورة الكاتب: عماد الجبالي
      عماد الجبالي
    • 21 أبريل
    • 4 دقائق قراءة

    في تفاصيل الحياة اليومية، نرى الإنسان يسعى وراء حاجاته بلهفة، يتحرك بين الأبواب والوجوه، يُجامل هذا ويتودد لذاك، يُظهر الطاعة، ويتصنع التواضع، ويُخفي ضيقه. والسبب؟ طمع في تحسين وضع وظيفي، أو ترقية منتظرة، أو حتى كلمة رضا من شخص بيده "قرار" صغير.

    نراه يتحمل الإهانة، يصبر على التجاهل، يقف طويلًا أمام باب لا يُفتح له بسهولة، ويرجو بشرًا لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، فقط لأن لديه أمل أن يحصل على شيء.

    لكن العجب ليس في فعله، بل في نسيانه... نسيانه للباب الأعظم، باب من لا يُردّ من طرقه، ولا يُخيب من قصده.


    الله، الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي لا يحتاج إلى موعدٍ مسبق، ولا واسطة، ولا صيغة رسمية، بل يكفي أن تقول: يا رب.

    فلو أن أحدًا قال لك: "اطلب ما شئت وسأعطيك"، ماذا ستفعل؟ ستُحسن الطلب، وتُظهر أدبك، وتكرر السؤال مرارًا، ولن تملّ. فكيف بخالق السماوات والأرض يقول لك: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ

    أليس هو أولى بكل هذا التذلل والانكسار الذي نبذله في طلب البشر؟

    نحن نحزن إذا لم يرد علينا بشر برسالة، أو لم يعطوننا موعدًا، أو لم يُحسنوا الحديث معنا، لكننا في المقابل نتثاقل عن سجدة لله، ونتكاسل عن الدعاء، وكأننا نستغني عنه، والحق أننا لا نملك لأنفسنا شيئًا.



    التذلل لله رفعة، والانكسار بين يديه عزّ

    فمن أعظم نعم الله على العبد أن يشعر بالذل والانكسار له سبحانه، فإن الذل له سبحانه هو كمال العز، وفي الانكسار له سبحانه غاية الجبر، قال ابن القيم رحمه الله: السُّجُودَ لِلَّهِ يَقَعُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا عُلْوِيِّهَا وَسُفْلِيِّهَا، والسَّاجِدَ أَذَلُّ مَا يَكُونُ لِرَبِّهِ وَأَخْضَعُ لَهُ، وَذَلِكَ أَشْرَفُ حَالَاتِ الْعَبْدِ، فَلِهَذَا كَانَ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، والسُّجُودَ هُوَ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ وَوَطَّأَتْهُ، وَأَذَلُّ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَأَخْضَعُ إِذَا كَانَ سَاجِدًا.

    الله لا يهين من وقف على بابه، ولا يرد من ناجاه، بل كلما ازداد العبد تضرعًا، زاده الله قربًا. الله لا يتعبه سماعك، ولا يضيق صدره من سؤالك، بل يحب أن يسمع صوتك، ويحب أن يُظهر لك كرمه، ولكن بشروط: أن تدعوه بيقين لا تردد فيه، أن تلجأ إليه بقلب حي لا غافل، أن توقن أن الخير عنده، وإن تأخر، فهو لحكمة، لا لإهمال.



    اليقين... سرّ الدعاء المجاب

    لكن هناك أمرٌ جوهريٌ يغيب عن كثيرين حين يدعون الله: اليقين.

    اليقين ليس مجرد فكرة ذهنية أو أمل داخلي، إنما هو شعورٌ عميقٌ وإحساسٌ صادق بأن ما تطلبه من الله كائنٌ لا محالة، ولا يعوقه شيء. أن تشعر أن حاجتك قد خرجت من عالم "المستحيل" إلى دائرة "التحقق"، وأن الله إذا قال للشيء: "كن"، فيكون.

    إنه اليقين الذي يجعل قلبك ساكنًا رغم تأخر الإجابة، لأنك توقن أنها آتية، كما توقن أن الفجر قادم بعد ظلمة الليل، كما توقن أن الشمس ستشرق من الشرق، كما توقن بأنك ستستيقظ في الغد وتمضي في يومك، فأنت لا تشك في ذلك، بل تبني عليه يومك وخططك واستعدادك.

    كذلك من يدعو الله بيقين، لا يتوقف عند الدعاء، بل يبدأ بالإعداد لما دعا به. فأنت حين تقول: يا رب ارزقني، فالصدق في اليقين أن تتهيأ للرزق، تبحث عن فرصه، تطرق أبوابه،وكأنك على موعد قريب مع عطية من السماء.

    حين تقول: يا رب افتح لي بابًا في العمل أو العلم أو الهداية، فإن اليقين أن تبدأ بالتخطيط والجد والعمل، لأنك مؤمن أن الدعاء لا يغير القدر فقط، بل يفتح لك أبوابًا كنت تظنها مغلقة.

    لأن الدعاء بدون يقين هو تمني، أما الدعاء مع اليقين، فهو يقين العارف بقدرة الله وكرمه.

    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ."


    فقه القلب... وأثر معرفة الأسماء الحسنى في الدعاء

    من أعظم ما يفتح لك أبواب القرب من الله ويجعل دعاءك حيًا نابضًا بالحياة، أن يكون قلبك موحِّدًا لله بحق، متدبرًا لأسمائه وصفاته، عالمًا بعظمته، راجيًا رحمته، موقناً وواثقاً بعدله، ومطمئنًا لكفايته.

    الدعاء لا يُستجاب بكثرة الكلمات، بل بصدق المعرفة. حين تقول: "يا رحيم", هل تعلم ما تعنيه؟ هل استشعرت أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه كتبها لك قبل أن تولد؟ حين تقول: "يا رزاق", هل تعلم أنه يرزق كل دابة، فكيف لا يرزقك؟ حين تقول: "يا جبار", هل توقن أنه يجبر كسر قلبك مهما انكسر؟

    معرفة الأسماء الحسنى ليست حفظًا ذهنيًا، بل حياة قلبية. فقه القلب هو أن تقول: "يا فتاح"، وأنت واثق أن كل باب مغلق سيفتح. أن تقول: "يا غفور"، وأنت توقن أن ذنبك، وإن عظم، أصغر من رحمته. أن تقول: "يا ولي"، وأنت تشعر أنه أقرب إليك من كل من حولك، يتولى أمرك حين يعجز الناس عنك.



    كيف أدعو؟

    قد تقول: "أريد أن أدعو، أن أتذلل، أن أُناجي ربي، لكن لا أعرف كيف... لا أُحسن ترتيب الكلام، ولا أملك تلك البلاغة التي أسمعها من الآخرين. "فأقول لك:

    الدعاء لا يحتاج إلى فصاحة، بل إلى صدق. لا يحتاج إلى كلمات منمّقة، بل إلى قلب منكسر. الله لا ينظر إلى صياغتك، بل ينظر إلى حاجتك، إلى دمعتك، إلى رجفتك حين تقول: "يا رب"، أما أفضل الدعاء والعبادة فهو كل ما كان يدعو به رسول الله صلّ الله عليه وسلم.


    إليك خطوات بسيطة تجعل دعاءك حيًا نابضًا:

    1. ابدأ بالثناء على الله: صفه بما هو أهله: يا رحيم، يا كريم، يا واسع الفضل، يا من لا يُعجزه شيء...

    2. ثم صلِّ على النبي محمد صلى الله عليه وسلم: فإنها من مفاتيح القبول: اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد.

    3. ثم ادعُ بقلبك، لا بلسانك فقط: قل له كل ما في نفسك، تحدث كما تتحدث لأقرب الناس إليك، بل بخضوع أعظم.

    4. أحسن الظن وأنت تدعو: لا تقل: "ربما يستجيب"، بل قل: "ربي كريم ولن يردني".

    5. اختم بالصلاة على النبي مرة أخرى، واسأل الله بأسمائه الحسنى: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

    6. وكرره في كل وقت، وأكثر في السجود، وفي الأسحار، وعند نزول المطر، وفي مواطن الرجاء.


    دعاؤك لن يضيع، بل سيعود إليك يومًا بشكلٍ لم تتوقعه، لأن الله لا ينسى عبده أبدًا.

    نهاية مفتوحة... لبداية يقين

    كلنا وقفنا أمام أبواب البشر نرجو حاجات دنيوية، لكننا غالبًا خرجنا منها بضعف أو خذلان. فمتى نعود إلى باب الله؟ متى نطرق بابه كما نطرق أبواب البشر؟ بل أكثر.

    اجعل لك لحظة كل يوم... تكون فيها عبدًا خالصًا، تنسى فيها الدنيا، وتذكر فقط: أنك فقير وهو الغني، أنك ضعيف وهو القوي، أنك عبد وهو الرب.

    وحينها، ستتغير نظرتك للحياة. لن تتعلق بأحد، ولن تنتظر شيئًا من أحد، بل ستكون في غنى عظيم، لأنك تذوقت معنى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".


    المراجع:

    • القرآن الكريم

    • اسلام ويب

    • حديث رسول الله صلّ الله عليه وسلم


    Comentários

    Avaliado com 0 de 5 estrelas.
    Ainda sem avaliações

    Adicione uma avaliação
    bottom of page